كيف تختطف الجماعات المتطرّفة الشباب؟
انعقدت ندوة رمضانية في خيمة طابة الفكرية بمقر مؤسسة طابة للأبحاث والاستشارات في أبوظبي، حيث ألقى رئيس مجلس إدارة المؤسسة الحبيب علي زين العابدين الجفري محاضرة بعنوان “كيف تختطف الجماعات المتطرّفة الشباب”؟
بيّن الحبيب علي في حديثه المداخل النفسية والفكرية والشرعية التي يتسلل أصحاب الفكر المتطرف منها إلى الشباب لاستقطابهم، مستغلّين مواطن ضعف ألمـّت بالأمة وشبابها، لا سيما الأمّية الدينية، وظروفًا مواتية لبثّ دعاويهم البرّاقة. وما يجب على المجتمع بشتى مستوياته وفئاته لمواجهة هذا الفكر وهذه النفسية. وقد تناول هذا الموضوع الشائك عبر محاور خمسة:
1. الأمة: إذ تعاني من مواطن ضعف منهكة محبطة يندرج تحتها خمسة عناصر أساسية هي:
أ. الاحتلال والشعور بافتقاد الكرامة
ب. وجود أنظمة ظالمة فاسدة مضطهدة
ج. التخلّف العلمي والاجتماعي والثقافي واستهلاك الفكر بدلاً من المشاركة في إنتاجه
د. الحالة الاقتصادية المتردية والفقر
ه. الفرقة والشقاق.
فهذه العناصر انعكست على نفسية شباب الأمّة فصارت في كثير من الأحيان نفسية متبرّمة ذات قابلية للانفلات من الضوابط ومشحونة بالبغضاء للمخالف وعدم قبول التنوّع، وذلك من جرّاء شعور الشباب بالضعف والعجز عن استرداد المقدّسات ونقص الكرامة والتبعية والإحساس بالهزيمة أمام الهيمنة الأمريكية والغربية مع ما أثقل كاهلهم من ألوان الفقر والاستبداد والقمع. وهذه العوامل عمل المتطرّفون على استغلالها أيما استغلال إذ سوّغوا للشباب الخروج على الحكام لتغيير الواقع المتأزّم واستعادة الكرامة والحقوق.
2. الدولة والمجتمع: وفيهما مظاهر سلبية تتضمّن عناصر خمسة هي:
أ. افتقاد الرؤية الناضجة لمستقبل الهوية الدينية عند الشباب
ب. النظرة إلى الخطاب الديني بأنّه مشكلة وليس حلًّا
ج. إقحام الخطاب الشرعي في لعبة التوازنات السياسية
د. التفكك الأسري وإهمال الأبناء مع العجز عن التعامل مع اقتحام العولمة لخصوصيات المجتمعات
ه. ضعف التعليم.
فإنّ تديّن الشباب في الغالب لم يُبنَ على أساس واعٍ متّزن من الفهم السليم للدين الذي كان مرتبطًا بالأخلاق والتعامل الراقي والرحمة؛ فصار منبتًّا عن منابع رفده الصحيح وتحوّل إلى مشاعر مختلطة من ردّات الفعل والشدّة والرعونة إذ غدت هوية التديّن غير واضحة المعالم، لا سيما في ظلّ إهمال الأبناء في توريث الأخلاق الراقية وحسن النظر والفضائل والقيم المستمدّة من نبيّ الأمّة ﷺ. واستُغلت هذه الحالة المتخبّطة في الاستقطاب السياسي وتأجيج المشاعر.
واقتحمت العولمة خصوصيات المجتمع المسلم وأثّرت على الأطفال والشباب بما أتاحت لهم من مواد ووسائل ذات تأثير سلبي على سلامة الفطرة والنظرة. ولم يتحصن الشباب بتعليم بنّاء متين منسجم مع الأصالة والمعاصرة ولم يتمكّن من أدوات تعليم قوية ناهضة.
كلّ هذا جعل الشباب عرضة للانجذاب إلى دعاوى المتطرّفين من حيث فراغ جعبتهم من الموروث الديني السليم ومن ثمّ افتقادهم لحسن الاستبصار.
3. الشباب: فهو يتقلّب في أحوال سلبية من عناصر خمسة هي:
أ. الأمّيّة الدينية
ب. أزمة الهوية
ج. ثقافة العصر في استعجال النتائج
د. الارتباك حيال الأصوات الصاخبة لخطاب التطرّف الديني واللاديني
ه. العجز عن التعامل مع الانفتاح وانتشار “ثقافة الحرية”.
يعاني الشباب من أمّيّة دينية تجعلهم عرضةً لفهم سقيم للدين وأهله، فلم يعد يتلقى الأطفال كما في الماضي نصيبًا وافيًا من تعلّم القرآن والأخلاق والهدي النبوي الشريف. وحتى في المدارس لم تعد المناهج الدينية تفي بمدّ الطلاب بالمعلومات الأساسية الدينية الشاملة. فقد عمدت بعض الدول بعد أحداث 11/9 إلى حذف مقرّرات مهمّة من مادّة الدين ومنها الجهاد، فصار الشباب غير مدركين لأحكام الجهاد، مما حدا بكثير منهم إلى سهولة الانسياق دون بصيرة إلى دعوات الجهاد التي يبثّها الغالون المتطرّفون، وصاروا متقبّلين للمسوّغات المضللة التي يروّجها أولئك. هذا إلى جانب ما يعيشه كثير من الشباب من أزمة هوّية سببها عدم التوفيق بين معطيات الحداثة والهوّية الدينية أسلمتهم إلى صراع ربما يحملهم على قابلية الاختطاف من قبل التنظيمات المتطرّفة؛ لا سيما وثقافة العصر المتسمة باستعجال النتائج والتغيير تميل بكثير منهم إلى التمرّد وثقافة البتر على حساب المعالجة والإصلاح.
والأصوات المرتفعة لخطاب التطرّف الديني واللاديني يحيّرهم ويزجّ منهم في أتون أحدهما، إذ التطرّف الديني يكرّ على مخالفيه بطريقة الخوارج الإقصائية، والتطرّف اللاديني يقفز من نقد الممارسة الدينية والفكر إلى النيل من المقدّسات والحطّ من قدرها.
وعامل آخر هو العجز عن التعامل مع ثقافة الانفتاح الوافدة مع ما فيها من أحمال دخيلة وما جاء معها من مفهوم غريب للحرية. فهذا خلق صدامًا قويًا عند فريق من الشباب وتقبلاً بلا مراجعة عند فريق آخر، وكلُّ ذلك لغياب النظرة الكونية السليمة الصحيحة، وهي النظرة التي تعتبر حقيقة الحرية بدايةً التحرّر من أسر الشهوات ورغبات الأنا. فهذا العجز أفضى إلى تعصّب مفرط أو غفلة مفرطة فتحت المجال للتمرّد على القيم باسم الحرية.
4. الخطاب الشرعي: ففي كثير من الأحيان يعاني الخطاب الشرعي من ضعف وتأخّر في خمسة عناصر هي:
أ. التجديد في المحتوى واللغة
ب. معرفة أسئلة العصر التي تشغل بال الشباب
ج. مجاراة مؤسسات الخطاب الشرعي لإمكانيات المتطرّفين المالية والمؤسسية والإعلامية
د. قدرات العمل الشرعي المجرّد بالمقارنة مع قدرات العمل السرّي المنظّم
ه. منتجات مؤسسات التعليم الشرعي.
فالشباب الأمّي في دينه يشعر بحواجز بينه وبين مفردات الخطاب الشرعي، بينما خطاب المتطرّفين سطحي بسيط مادته آية أو حديث مع تأويل فاسد. وكثير من الشباب لديه أسئلة متعلّقة بهذا العصر لم يوفّق في كثير من الأحيان الخطاب الشرعي في وضع إجابات عنها، هذا بالإضافة لضعف إمكانياته المالية والتقنية وقدراته مقابل ما لدى العمل السرّي المنظم من قدرات وإمكانيات.
5. التنظيمات المتطرّفة: ولها عناصر خمسة تتحرّك بها:
أ. استغلال الأوضاع التي تعاني منها المحاور الأربعة التي سبق ذكرها
ب. منطلقاتها السبعة: الحاكمية والجاهلية والولاء والبراء والفرقة الناجية والاستعلاء وحتمية الصدام والخلافة والتمكين
ج. غرس العقلية التصادمية الأحادية وتوظيف الفتنة الطائفية
د. افتعال الصراعات والزج بالشباب فيها ثم ابتزازهم بالمظلومية
ه. حيازة إمكانيات إعلامية واحترافية في وسائل التواصل الاجتماعي.
فالتنظيمات المتطرّفة تستغل عند الشباب الأمية الدينية والنفسية المحبطة والحالة الاقتصادية والفقر وجور بعض الأنظمة وصراع الهوية والظروف المؤدية إلى ضعف تأثير الخطاب الشرعي المعتبر. وتنطلق في حركتها من تكفير الحاكم على أنّه لم يحكم بما أمر الله، تحريفًا منها للمعنى المعتمد عند أهل السنّة للآية التي يستشهدون بها في ذلك. ويعدّون المجتمع الذي رضي بهذا الحاكم مجتمعًا جاهليًّا يلزم البراء منه، والولاء لأمثالهم، بتكفير مخالفيهم واعتبار أنفسهم الفرقة الناجية دون غيرهم، مما تسبب في استحلال سفك الدماء. وقد حرّفوا معنى قول الله تعالى: “وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ” بمفهومٍ للاستعلاء يزدرون به غيرهم. ويرون، والحالة هذه، حتمية الصدام إذ لا يستقيم دين أحدهم إلا إذا اصطدم مع المجتمع برؤية تكفيرية إقصائية له؛ بعد ذلك يتحقق لهم التمكين والخلافة.
وفي سبيل الوصول لأغراضهم يقومون بالتعبئة التصادمية وافتعال الصراعات وتوظيف الفتنة الطائفية وصناعة المظلومية بالكذب والتهويل، وذلك بما يمتلكون من إمكانيات إعلامية واحترافية في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للتأثير على الشباب.
وفي ختام الندوة أكّد الحبيب علي ضرورة علاج الأمّيّة الدينية ومحوها عند الشباب عبر المدرسة والمسجد والإعلام والأسرة والمجتمع، إذ الحاجة الماسّة تدعو إلى زيادة جرعة الوعي الديني وتمكين الفهم السليم للدين على يد أربابه من الوصول إلى الشباب؛ وأنّه من الأهمية بمكان القيام بحوار مجتمعي ونقاشات لتبيين الخلل الشرعي والفكري والمنهجي عند المتطرّفين، وإضاءة عقول الشباب بمعرفة السبل الصحيحة لأخذ الدين من أهله المعتبرين بالمناهج الموروثة كابرًا عن كابر.
وفي نهاية اللقاء دعا الحبيب علي للشيخ زايد بن سلطان بالرحمة والمغفرة، إذ كانت وفاته في مثل هذه الأيام في رمضان، وذكر أياديه البيضاء وآثاره الحميدة لا سيما في خدمة القضية الفلسطينية، فهو القائل: “ليس البترول العربي بأغلى من الدم العربي”، إذ أقام مشاريع إسكانية وخيرية عديدة في القدس وعموم فلسطين. وذكر أنّ ما يعرفه أهل الإمارات ومن عاشوا فيها من الذين يدركون لماذا يُذكر دائمًا، رحمه الله، بالثناء الحسن، فقد أعطى الإنسان، المسلم وغيره، وبنى وشيّد وامتدت أريحيته في شتى البقاع، طيّب الله ثراه ورفع درجاته في الجنّة.